
د/ كامل صلاح
“(عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” رواه مسلم.
الأمل والأمن، والرضا والحب، والسكينة النفسية، ثمار شهية لغراس العقيدة في نفس المؤمن، وذخائر لا تنفد لإمداده في معركة الحياة، وأنها لمعركة طويلة الأمد، كثيرة التكاليف، محفوفة بالأخطار والمشقات؛ ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها، تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، فكم يخفق له عمل أو يخيب له أمل. أو يموت له حبيب. أو يمرض له بدن، أو يفقد منه مال، أو .. أو .. إلى آخر ما يفيض به نهر الحياة … حتى قال الشاعر يصف الدنيا:
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الآلام والأكدار !
ومكلف الأيام ضد طباعهـا متطلب في الماء جذوة نـار
وإذا كان هذا سنة الله في الحياة عامة، وفى الناس كافة، فإن أصحاب الرسالات خاصة أشد تعرضاً لنكبات الدنيا وويلاتها، إنهم يدعون إلى الله فيحاربهم دعاة الطاغوت، وينادون بالحق فيقاومهم أنصار الباطل ويهدون إلى الخير فيعاديهم أنصار الشر، ويأمرون بالمعروف فيخاصمهم أهل المنكر … وبهذا يحيون في دوامة من المحن، وسلسلة من المؤامرات والفتن، سنة الله الذي خلق آدم وإبليس، وإبراهيم ونمرود، وموسى وفرعون، ومحمداً وأبا جهل (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) (الأنعام: 112) (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين) (الفرقان: 31)
هذا شأن الأنبياء. وشأن ورثتهم. والسائرين على دربهم. والداعين بدعوتهم. مع الطغاة الصادين عن سبيل الله (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) (البروج: 8 ).
سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: “الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة” (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح )
الملحدون أشد الناس جزعاً
وقد أثبت الاستقراء والمشاهدة أن أشد الناس جزعاً، وأسرعهم انهياراً أمام شدائد الحياة هم الملحدون والمرتابون وضعاف الإيمان، وقد وصف القرآن هذا النموذج من الناس فقال: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور) (هود: 9)، (وإن مسه الشر فيؤس قنوط) (فصلت: 49)، (وإذا مسه الشر كان يؤوساً) (الإسراء: 83)، (ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين) (الحج: 11 ).)
إنهم لا يؤمنون بقدر فيرضوا به، ولا بإله فيطمئنوا إلى حكمته في خلقه، ولا بأنبياء فيجدوا في حياتهم القاسية قدوة وعبرة، ولا بحياة أخرى فتهب عليهم نسماتها منعشة للنفس، وطاردة للكآبة، باعثة للأمل
إنهم كسفينة فقدت الدفة والشراع وكل عوامل الثبات أمام الأمواج والعواصف، فهي لأدنى حركة من الريح يشتد اهتزازها وتمايلها، ويحيط بها الموج من كل مكان، وسرعان ما تغوص إلى الأعماق !
ولا غرو أن نجد الانتحار أكثر ما يكون في البيئات التي ضعف دينها أو فقدته، فإن لم يكن الانتحار فهو الألم القاتل، والجزع الهالع، والكآبة الحزينة، والحزن الكئيب، والحياة التي خلت من معنى الحياة
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء !
إنما الميت من يعيش كئيبـاً كاسفاً باله قليل الرجاء !
ثبات المؤمن ومصدره:
أما المؤمنون فهم أصبر الناس على البلاء، وأثبتهم في الشدائد، وأرضاهم نفساً في الملمات
عرفوا قصر عمر الدنيا بالنسبة لعمر الخلود فلم يطمعوا أن تكون دنياهم جنة قبل الجنة (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) (النساء: 77). (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (آل عمران: 185 ) )
وعرفوا سنة الله في هذا النوع من الخليقة (الإنسان) الذي ابتلي بنعمة حرية الإرادة، والاستخلاف في الأرض، فلم يطمعوا أن يكونوا ملائكة أولي أجنحة (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) (الإنسان: 2)، (لقد خلقنا الإنسان في كبد) (البلد: 4)
وعرفوا من سنن أنبيائهم ورسلهم أنهم أشد الناس بلاء في الحياة الدنيا، وأقل الناس استمتاعاً بزخرفها، فلم يطمعوا أن يكونوا خيراً منهم، ولهم فيهم أسوة حسنة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن في نصر الله قريب) -البقرة: 214-.
قال ابن القيم: يا مخنث العزم … الطريق تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، وتعرض للذبح إسماعيل، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى …
الإيمان بالقدر يهون على المؤمنين البلاء :
وعرفوا أن ما ينزل بهم من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنه وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة أزلية، وكتابة إلهية، فآمنوا بأنه ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم … (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير) (الحديد: 22 (
وعرفوا أن من صفته تعالى إن يقدر ويلطف، ويبتلي ويخفف، ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره (إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم)(يوسف: 100)
وعرفوا من لطف ربهم أن هذه الشدائد دروس قيمة لهم، وتجارب نافعة لدينهم ودنياهم، تنضح نفوسهم، وتصقل إيمانهم، وتذهب صدأ قلوبهم “مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها” وما أبلغ ما قال الرافعي: “ما أشبه النكبة بالبيضة، تحسب سجناً لما فيها وهي تحوطه، وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة، فيخرج خلق آخر
وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته: عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل”
شعور المؤمن بنعمة الله في السراء والضراء :
وعرفوا من مظاهر هذا اللطف والرحمة الإلهية ما عرفه أحد السلف حين قال ما أصبت في دنياي بمصيبة إلا رأيت لله فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني أرجو ثواب الله عليها
وتلك نعم تلابس كل مصيبة في دنيا الناس، جديرة أن تشعر المؤمن بشعور الشكر لله فضلاً عن الرضا بقضائه، والصبر على بلائه
مصائب الدنيا تهون :
فكل مصيبة في دنيا الإنسان قد تعوض بخير منها، أما مصيبة الدين فخسارة لا تعوض، ولذلك حين خير يوسف عليه السلام بين أن يصاب في دنياه فيسجن ويكون من الصاغرين، وأن يصاب في دينه فيصبو إلى النسوة ويكون من الجاهلين، كما قالت امرأة العزيز للنسوة: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين) (يوسف: 32 (
حين خير يوسف بين الأمرين كان لابد أن يختار مصيبة الدنيا، فقال (رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه) (يوسف: 33 )
وكان مما علمه نبي الإسلام لأمته أن يقولوا: “اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا” (رواه الترمذي والحاكم)
بعض الشر أهون من بعض :
وإن كل مصيبة لا شك أن هناك أكبر منها، وقديماً قال الناس: “بعض الشر أهون من بعض” “وبلاء أخف من بلاء” “ومن نظر لبلوى غيره هانت عليه بلواه”
والمؤمن ينظر بعين بصيرته فيحمد الله على أمرين: أولهما: دفع ما كان يمكن أن يحدث من بلاء أكبر، وثانيهما: بقاء ما كان يمكن أن يزول من نعمة غامرة وفضل جزيل. فهو ينظر إلى النعمة الموجودة قبل أن ينظر إلى النعمة المفقودة، وينظر إلى البلاء المتوقع بجانب نظره إلى البلاء الواقع
وهذا بلا شك يحدث كثيراً من الارتياح والرضا، فالبلاء المتوقع كثير وقد دفع عنه، والنعم الموجودة كثيرة وقد بقيت له
وهذا عروة بن الزبير أحد فقهاء التابعين في الإسلام مثل صالح للمؤمن الصابر الراضي، المقدر لنعم الله، فقد رووا أن رجله وقعت فيها الأكلة فقرر الأطباء قطعها حتى لا تسري إلى ساقه كلها ثم إلى فخذه، وربما ترقت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها. فعرضوا عليه أن يشرب شيئاً يغيب عقله حتى لا يحس بالألم ويتمكنوا من قطعها فقال: ما ظننت أن أحداً يؤمن بالله يشرب شيئاً يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكن هلموا فاقطعوها، فقطعوها من ركبته وهو صامت لا يتكلم، ولا يعرف أنه أنّ اشتكى ) ! !
وشاء القدر أن يبتلى الرجل على قدر إيمانه، ففي هذه الليلة التي قطعت فيها رجله سقط ابن له -كان أحب أولاده إليه- من سطح فمات، فدخلوا عليه فعزوه فيه، فقال: اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فإن كنت أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت لقد عافيت ! !
حلاوة الثواب ومرارة الألم :
وفي الحديث الصحيح: “ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه“
أصاب أحد الصالحين شيء في قدمه فلم يتوجع ولم يتأوه، بل ابتسم واسترجع، فقيل له: يصيبك هذا ولا تتوجع؟ فقال: إن حلاوة ثوابه أنستني مرارة وجعه !
سؤال : “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ ……………………………” سنن ابن ماجه .
وصية عملية : أن تديم مراقبة الله تبارك وتعالى , وتذكر الآخرة , وتستعد لها .