سلسلة قيم وأخلاق إسلامية(11)/الشيخاني ولد عبد القادر
الاثنين, 26 أغسطس 2013 18:55

الشيخاني ولد عبد القادرالشيخاني ولد عبد القادر أكل الطيبات

 

لغةً:   الأَكْلُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا يَطْعَمُهُ الإِنْسَانُ مِنْ صُنُوفِ الأَغْذِيَةِ وَغَيْرِهَا. وَالطَّيِّبُ خِلاَفُ الخَبِيثِ، قَالَ ابْنُ سِيدَةَ: طَابَ الشَّيْءُ طِيبًا وَطَابًا: لَذَّ وَزَكَا, وَطَابَ الشَّيْءُ أَيْضًا يَطِيبُ طِيبًا وَطِيبةً، وطَعَامٌ طَيِّبٌ لِلَّذِي يَسْتَلِذُّ الآكِلُ طَعْمَهُ.

وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الطَّيِّبِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ بِمَعْنَى الْحَلاَلِ. وَيُقالُ أَرْضٌ طَيِّبَةٌ لِلَّتِي تَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ، وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ إِذَا كَانَتْ لَيْسَتْ بِشَدِيدَةٍ، وَامْرَأَةٌ طَيِّبَةٌ إِذَا كَانَتْ حَصَانًا عَفِيفَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} (النور/6‍‍) وَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَكْرُوهٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: شَهَادَةُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم, وَلَيْلَةٌ طَيِّبَةٌ أَيْ آمِنَةٌ كَثِيرَةُ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (سبأ/5‍‍).

واصطلاحًا: قَالَ الْكَفَوِيُّ: الطَّيِّبُ:مَا أَفْتَاكَ قَلْبُكَ أَنْ لَيْسَ فِيهِ جُنَاحٌ، وَقِيلَ: الطَّيِّبُ مَا يُسْتَلَذُّ مِنَ الْمُبَاحِ. وَقِيلَ: الطَّيِّبُ مَا لاَ يُعْصَى اللهُ فِي كَسْبِهِ وَلاَ يَتَأَذَّى حَيَوَانٌ بِفِعْلِهِ.

 

وَقَالَ الرَّاغِبُ:[وَأَصْلُ الطَّيِّبِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ، وَالطَّعَامُ الطَّيِّبُ فِي الشَّرْعِ مَا كَانَ مُتَنَاوَلاً مِنْ حَيْثُ مَا يَجُوزُ وَبِقَدْرِ مَا يَجُوزُ وَمِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَجُوزُ].

الطيب من كل شيء مختارُ اللهِ: قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:[اخْتَارَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاِت أَطْيَبَهُ، وَاخْتَصَّهُ لِنَفْسِهِ وَارْتَضَاهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يُحِبُّ إِلاَّ الطَّيِّبَ، وَلاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ وَالكَلاَمِ وَالصَّدَقَةِ إِلاَّ الطَّيِّبَ، فَالطَّيِّبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مُخْتَارُهُ تَعَالَى.

من سمات الطيبين أكل الطيبات:   وَأَمّا خَلْقُهُ تَعَالَى، فَعَامٌّ لِلنَّوْعَيْنِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ، فَإِنَّ الطَّيِّبَ لاَ يُنَاسِبُهُ إِلاَّ الطَّيِّبُ، وَلاَ يَرْضَى إِلاَّ بِهِ، وَلاَ يَسْكُنُ إِلاَّ إِلَيْهِ، وَلاَ يَطْمَئِنُ قَلْبُهُ إِلاَّ بِهِ. فَلَهُ مِنَ الكَلاَمِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ الَّذِي لاَ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى إِلاَّ هُوَ، وَهُوَ أَشَدّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنِ الفُحْشِ فِي الْمَقَالِ، وَالتَّفَحُّشِ فِي اللِّسَانِ وَالبَذَاءِ، وَالْكَذِبِ وَالغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ وَالبَهْتِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَكُلِّ كَلاَمٍ خَبِيثٍ.

وَكَذَلِكَ لاَ يَأْلَفُ مِنَ الأَعْمَالِ إِلاَّ أَطْيَبَهَا، وَهِيَ الأَعْمَالُ الَّتِي اجْتَمَعَتْ عَلَى حُسْنِهَا الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ مَعَ الشَّرَائِعِ النَّبَوِيَّةِ،وَزَكَّتْهَا العُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فَاتَّفَقَ عَلَى حُسْنِهَا الشَّرْعُ وَالعَقْلُ والفِطْرَةُ، مِثْلُ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيْئًا،وَيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ عَلَى هَوَاهُ، وَيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِ جُهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، ويُحْسِنَ إِلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَفْعَلَ بِهِمْ مَا يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ، ويُعَامِلُوهُ بِهِ، وَيَدَعَهُمْ مِمَّا يُحِبُّ أَنْ يَدَعُوهُ مِنْهُ، وَيَنْصَحَهُمْ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَحْكُمَ لَهُمْ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِهِ، وَيَحْمِلَ أَذَاهُمْ وَلاَ يُحَمِّلَهُمْ أَذَاهُ، وَيَكُفَّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَلاَ يُقابِلَهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْ عِرْضِهِ، وَإِذَا رَأَى لَهُمْ حَسَنًا أَذَاعَهُ، وَإِذَا رَأَى لَهُمْ سَيِّئًا كَتَمَهُ، وَيُقِيمَ أَعْذَارَهُمْ مَا اسْتَطَاعَ فِيمَا لاَ يُبْطِلُ شَرِيعَةً، وَلاَ يُنَاقِضُ للهِ أَمْرًا وَلاَ نَهْيًا.

وَلَهُ أَيْضًا مِنَ الأَخْلاَقِ أَطْيَبهَا وَأَزْكَاهَا، كَالحِلْمِ، وَالوَقَارِ، وَالسَّكِينَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالصَّبْرِ، وَالْوَفَاءِ، وَسُهُولَةِ الجَانِبِ، وَلِينِ العَرِيكَةِ، وَالصِّدْقِ، وَسَلاَمَةِ الصَّدْرِ مِنَ الغِلِّ وَالغِشِّ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لأهْلِ الإِيمَانِ، وَالعِزَّةِ وَالغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ، وَصِيَانَةِ الوَجْهِ عَنْ بَذْلِهِ وَتَذَلُّلِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَالعِفَّةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ، وَالْمَرُوءَةِ، وَكُلِّ خُلُقٍ اتَّفَقَتْ عَلَى حُسْنِهِ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ وَالعُقُولُ. وَكذَلِكَ لاَ يَخْتَارُ مِنَ الْمَطَاعِمِ إِلاَّ أَطْيَبَهَا، وَهُوَ الْحَلاَلُ الْهَنِيءُ الْمَرِيءُ الَّذِي يُغَذِّي الْبَدَنَ وَالرُّوحَ أَحْسَنَ تَغْذِيَةٍ، مَعَ سَلاَمَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَبِعَتِهِ.

وَكَذَلِكَ لاَ يَخْتَارُ مِنَ الْمَنَاكِحِ إِلاَّ أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا، وَمِنَ الرَّائِحَةِ إِلاَّ أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا، وَمِنَ الأَصْحَابِ إِلاَّ الطَّيِّبِينَ مِنْهُمْ، فَرُوحُهُ طَيِّبٌ، وَبَدَنُهُ طَيِّبٌ، وخُلُقُه طَيِّبٌ، وَعَمَلُهُ طَيِّبٌ، وَكَلاَمُهُ طَيِّبٌ، وَمَطْعَمُهُ طَيِّبٌ، وَمَشْرَبُهُ طَيِّبٌ، وَمَلْبَسُهُ طَيِّبٌ، وَمَنْكِحُهُ طَيِّبٌ، وَمُنْقَلَبُهُ طَيِّبٌ، وَمَثْوَاهُ كُلُّهُ طَيِّبٌ. فَهَذَا مِمَّنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل/2‍‍), وَمِنَ الَّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ:{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}(الزمر/73‍) وَهَذِهِ الفَاءُ تَقْتَضِي السَّبَبِيَّةَ،أَيْ: بِسَبَبِ طِيبِكُمُ ادْخُلُوهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ للطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور/6‍‍) وَقَدْ فُسِّرَتِ الآيَةُ بِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الخَبِيثَاتِ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ لِلطَّيِّبيِن َ، وَفُسِّرَتْ بِأَنَّ النِّسَاءَ الطَّيِّبَاتِ لِلرِّجَالِ الطَّيِّبِينَ، وَالنِّسَاءَ الخَبِيثَاتِ لِلرِّجَالِ الخَبِيثِينَ. وَهِيَ تَعُمُّ ذَلِكَ وَغَيْرَهَ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الطَّيِّبَ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَعَل الخَبِيثَ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ، فَجَعَلَ الدُّورَ ثَلاَثَةً: دَارًا أُخْلِصَتْ للطَّيِّبِينَ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ الطَّيِّبِينَ، وَقَدْ جَمَعَتْ كُلَّ طَيِّبٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَدَارًا أُخْلِصَتْ لِلْخَبِيثِ وَالخَبَائِثِ، وَلاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ الْخَبِيثُونَ وَهِيَ النَّارُ، وَدَارًا امْتَزَجَ فِيهَا الطَّيِّبُ وَالخَبِيثُ وَخُلِطَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ هَذِهِ الدَّارُ، وَلِهَذَا وَقَعَ الابْتِلاَءُ وَالْمِحْنَةُ بِسَبَبِ هَذَا الامْتِزَاجِ وَالاخْتِلاَطِ، وَذَلِكَ بِمُوجِبِ الْحِكْمَةِ الإِلَهِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ مَعَادِ الخَلِيقَةِ، مَيَّزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَجَعَلَ الطَّيِّبَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لاَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ، وَجَعَلَ الخَبِيثَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لاَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ، فَعَادَ الأمْرُ إِلَى دَارَيْنِ فَقَطْ: الجَنَّةُ وَهِيَ دَارُ الطَّيِّبِينَ، وَالنَّارُ، وَهِيَ دَارُ الخَبِيثِينَ، وَأَنْشَأَ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَعْمَالِ الفَرِيقَيْنِ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فَجَعَلَ طَيِّبَاتِ أَقْوَالِ هَؤُلاَءِ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ هِيَ عَيْنَ نَعِيمِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ، أَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَكْمَلَ أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ، وَجَعَلَ خَبِيثَاتِ أَقْوَالِ الآخَرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ هِيَ عَيْنَ عَذَابِهِمْ وَآلاَمِهِمْ، فَأَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ وَالآلاَمِ، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَعِزَّةٌ بَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ، لِيُرِيَ عِبَادَهُ كَمَالَ رُبُوبِيَّتِهِ، وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِيَعْلَمَ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُفْتَرِينَ الكَذَّابِينَ، لاَ رُسُلُهُ البَرَرَةُ الصَّادِقُونَ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل/8‍‍‍‍). وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَعَلَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عُنْوَانًا يُعْرَفَانِ بِهِ، فَالسَّعِيدُ الطَّيِّبُ لاَ يَلِيقُ بِهِ إِلاَّ طَيِّبٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلاَّ طَيِّبًا وَلاَ يَصْدُرُ مِنْهُ إِلاَّ طَيِّبٌ، وَلاَ يُلاَبِسُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَالشَّقِيُّ الخَبِيثُ لاَ يَلِيقُ بِهِ إِلاَّ الخَبِيثُ، وَلاَ يَأْتِي إِلاَّ خَبِيثًا، وَلاَ يَصدُر مِنْهُ إِلاَّ الْخَبِيثُ، فَالخَبِيثُ يَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ الخَبَثُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَالطَّيِّبُ يَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ الطِّيبُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الشَّخْصِ مَادَّتَانِ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا طَهَّرَهُ مِنَ الْمَادَّةِ الخَبِيثَةِ قَبْلَ الْمُوَافَاةِ. فَيُوَافِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مُطَهَّرًا، فَلاَ يُحْتَاجُ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِالنَّارِ، فَيَطَّهَّرَ مِنْهَا بِمَا يُوَفِّقُهُ لَهُ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَيُمْسِكُ عَنِ الآخَرِ مَوَادَّ التَّطْهِيرِ، فَيَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَادَّةٍ خَبِيثَةٍ، وَمَادَّةٍ طَيِّبَةٍ وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى تَأْبَى أَنْ يُجَاوِرَهُ أَحَدٌ فِي دَارِهِ بِخَبَائِثِهِ، فَيُدْخِلُهُ النَّارَ طُهْرَةً لَهُ وَتَصْفِيَةً وَسَبْكًا، فَإِذَا خَلَصَتْ

سَبِيكَةُ إِيمَانِهِ مِنَ الخَبَثِ، صَلَحَ حِينَئِذٍ لِجِوَارِهِ، وَمُساكَنَةِ الطَّيِّبِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَإِقَامَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النَّاسِ فِي النَّارِ عَلَى حَسَبِ سُرْعَةِ زَوَالِ تِلْكَ الْخَبَائِثِ مِنْهُمْ وَبُطْئِهَا، فَأَسْرَعُهُمْ زَوَالاً وَتَطْهِيرًا أَسْرَعُهُمْ خُرُوجًا، وَأَبْطَؤُهُمْ أَبْطَؤُهُمْ خُرُوجًا، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا ربُّكَ بظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُ خَبِيثَ العُنْصُرِ، خَبِيثَ الذَّاتِ، لَمْ تُطَهِّرِ النَّارُ خَبَثَهُ، بَلْ لَوْ خَرَجَ مِنْهَا لَعَادَ خَبِيثًا كَمَا كَانَ كَالْكَلْبِ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ ـ اللهُ تَعَالَى ـ عَلَى الْمُشْرِكِ الْجَنَّةَ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُ الطَّيِّبُ الْمُطَيِّبُ مُبَرَّءًا مِنَ الْخَبَائِثِ، كَانَتِ النَّارُ حَرَامًا عَلَيْهِ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَطْهِيرَهُ بِهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ العُقُولَ وَالأَلْبَابَ، وَشَهِدَتْ فِطَرُ عِبَادِهِ وَعُقُولُهُمْ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ، وَرَبُّ العَالَمِينَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.

 بين الطيب والحلال: قَالَ الْكَفَوِيُّ: الْحَلاَلُ: مَا أَفْتَاكَ الْمُفْتِي أَنَّهُ حَلاَلٌ. وَالطَّيِّبُ: مَا أَفْتَاكَ قَلْبُكَ أَنْ لَيْسَ فِيهِ جُنَاحٌ. وَقِيلَ: الْحَلاَلُ: مَالاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ، وَالطَّيِّبُ مَا يُسْتَلَذُّ مِنَ الْمُبَاحِ.

 

آيات في أكل الطيبات {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(البقرة:168). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}( البقرة:172).

{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(المؤمنون:51). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ..}(البقرة:267). {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ..} (المائدة:4).

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ..} (المائدة:5). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87)}(المائدة:87).

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(الأعراف:32). {..وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ..}(الأعراف:157).

 

أحاديث في أكل الطيبات 1- (عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم: [الأَكْثَرُونَ هُمُ الأَسْفَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَكَسَبَهُ مِنْ طَيِّبٍ])(رواه ابن ماجة، وفي الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات). 2- (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم: [لاَ يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، إِلاَّ أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ, حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ])(البخاري ومسلم).

3- (عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم قَالَ:[مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ, وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ فَهُوَ صَدَقَةٌ])(أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني). 4- (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم: [يا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا،وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ أَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ, يَا رَبِّ يَا رَبِّ, وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ, فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟])(رواه مسلم). 5- (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم قَالَ:[خَيْرُ الكَسْبِ كَسْبُ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ])(رواه أحمد ورواته ثقات).

6- (عَنِ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم قَالَ: [مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ])(رواه البخاري).

آثار وأقوال في أكل الطيبات 1- (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ البَاجِيُّ الزَّاهِدُ: [خَمْسُ خِصَالٍ بِهَا تَمَامُ الْعَمَلِ: الإِيمَانُ بِمَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَإِخْلاَصُ الْعَمَلِ للهِ، وَالْعَمَلُ عَلَى السُّنَّةِ، وَأَكْلُ الْحَلاَلِ]).

2- (قَالَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ قَوْلِهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلم: [إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ...] قَالَ: الْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ الرُّسُلَ وَأُمَمَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي هِيَ الْحَلاَلُ وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ). 3- (قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا} (البقرة/8‍‍‍) أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلاَلاً مِنَ اللهِ طَيِّبًا أَيْ مُسْتَطَابًا فِى نَفْسِهِ غَيْرَ ضَارٍّ لِلأَبْدَانِ وَلاَ لِلْعُقُولِ). 4- (وَقَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ أَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة/2‍‍‍) وَالأَكْلُ مِنَ الْحَلاَلِ سَبَبٌ لِتَقَبُّلِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّ الأَكْلَ مِنَ الْحَرَامِ يَمْنَعُ قَبُولَ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ). 5- (قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِىُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (المؤمنون/1‍‍) قَالَ: أَمَا وَاللهِ مَا أَمَرَكُمْ بِأَصْفَرِكُمْ وَلاَ أَحْمَرِكُمْ، وَلاَ حُلْوِكُمْ وَلاَ حَامِضِكُمْ وَلَكِنْ قَالَ: انْتَهُوا إِلَى الْحَلاَلِ مِنْهُ). 6- (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يَعْنِي الْحَلاَلَ).

7- (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرْحَبِيلَ: [كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ]).

من فوائد أكل الطيبات 1‍- طَرِيقٌ مُوصِلٌ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَجَنَّتِهِ. 2‍- سَبَبٌ لإِجَابَةِ الدُّعَاءِ. 3‍- الْبَرَكَةُ فِي الْعُمْرِ، وَالنَّمَاءُ فِي الْمَالِ. 4‍- السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ فِي الآخِرَةِ. 5‍- يُورِثُ حَلاَوَةَ الْمَقَالِ وَالْفَعَالِ. 6‍- البَرَكَةُ فِي الذُّرِّيَّةِ مِنْ ثِمَارِ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ (أَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ جِسْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ). 7‍- كَسْبُ الرَّجُلِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ رِفْعَةٌ وَكَرَامَةٌ.

 

 

 

 

سلسلة قيم وأخلاق إسلامية(11)/الشيخاني ولد عبد القادر

السراج TV