يجهد الخطاب الإسلامي المعاصر في الدعوة إلى استعادة و تثبيت قيم إسلامية أوشك وميضها أن يخبو بفعل نزعة مادية بغيضة . إلا أن هذا الجهد , ومهما حسنت نوايا القائمين عليه , تشوبه تعثرات عديدة تحد من تمثله على مستوى السلوك و الممارسة , أو إدماجه في البناء التربوي للأسرة المسلمة .ولعل أهم هذه العثرات ما ألمح إليه الأستاذ محمد قطب في كتابه " كيف ندعو الناس ؟ " بشأن الظرفية الخاصة التي تمر بها الأمة الإسلامية اليوم , و التي تلقي على كاهل الدعاة عبئا إضافيا يفرض تجديد الأساس . فالفساد الذي ألم بالأمة اليوم ليس فساد سلوك يُجدي معه الترميم و الإصلاح , بل هو فساد في المفاهيم ذاتها , و انحراف خطير يتخفى تحت قشرة التقاليد الخادعة !
تندرج القناعة ضمن هذه القيم المتخلى عنها تحت ضغط اللهاث العالمي لإشباع الرغبات و تكديس المنتجات .فالإنسان عموما يتوق إلى نوع أرقى من المعيشة و حظ أوفر من الرفاهية ,غير أنه اليوم وقع فريسة عادات استهلاكية موجهة , تتضافر قوى عديدة لتثبيتها وإكسابها بعدا رمزيا يوحي بوثوق صلتها بالهوية و المكانة الاجتماعية . ولم يعد الأمر وقفا على التلبية المفرطة للرغبات , بل انقاد الفرد طوعا أو كرها للإنفاق التنافسي الذي يغذيه التفاخر و التباهي , والإيهام باختراق نادي الأثرياء ! وضع كهذا يقود , برأي الباحثة الأمريكية "جوليت شور" إلى تنامي آفات اجتماعية خطيرة كارتفاع معدل جرائم السرقة و العنف , وشيوع مظاهر الاستياء و التشاؤم خصوصا لدى أفراد الطبقة المتوسطة. و إذا كانت الباحثة تخلص إلى صعوبة التحكم في نزعة الاستهلاك الجبري لأسباب من بينها : تآكل القيود الدينية و الأخلاقية على الاستهلاك , و الجهد الكبير الذي يبذله دهاقنة الانتاج و الإعلان و التسويق لجعل بيئة الإنفاق أكثر إغراء و جاذبية (1), إلا أن في منظومة القيم الإسلامية ما يسمح بهذا التحكم , ويعيد المسلم المعاصر إلى جادة القناعة إذا ما تحقق التمرير الفاعل للمفاهيم و السلوكيات البديلة . يرسم أبو حامد الغزالي في "الإحياء" خارطة طريق لترسيخ القناعة كأسلوب للحياة و تدبير المعاش . فمن أراد عز القناعة برأيه لا بد له من خمسة أمور أولها أن يوطن نفسه و عياله على الإجمال في الطلب و الاقتصاد في المعيشة , وأن يستحضر الرفق في الإنفاق كما يستحضره في بقية الأمور . و ثانيها ألا يتطلع للمستقبل بخوف و اضطراب إذا تيسر له في الحال ما يكفيه .وهذا يعينه على قصر الأمل و التحقق بأن رزقه الذي قُدر له لا تجلبه شدة الحرص بل اليقين بوعد الله تعالى . ورد كيد الشيطان الذي يعده بالفقر ويحمله على بذل عمره في غير طاعة الله . و ثالثها أن يؤثر عز النفس و الاستغناء عن الخلق على شهوة البطن .ففي القناعة حرية تصونه من ذل الاحتياج للناس , و تكسبه قدرة على متابعة الحق دون خوف أو مداهنة . أما رابعها أن مما يعينه على القناعة و الرضى بقسمة المعاش أن يتأمل أحوال المتنعمين من اليهود و النصارى و الحمقى ممن لا دين لهم , ثم ينظر في أحوال الأنبياء و الأولياء و يخير عقله بين مشابهة الأراذل أو الاقتداء بأعز أصناف الخلق . وينهض خامسها على التحذير من مغبة الولاء للمال , و انشغال البال بالآفات التي تلحقه من سرقة ونهب وضياع .فالشيطان حريص على أن يصرف نظر المسلم في الدنيا إلى من فوقه , وفي الدين إلى من دونه حتى تتعلق نفسه بالتنعم , و تفتر عن طلب الآخرة (2). وفي سياق حديثه عن العدالة الاقتصادية وتوزيع الثروة في الإسلام , يضيف الشيخ البهي الخولي رحمه الله قاعدة سادسة توفر, إلى جانب ما أورده الغزالي , إطارا تربويا يُمكن الداعية والمربي من تثبيت درس القناعة فهما وممارسة وفق صياغة تلائم روح العصر. إذ ينطلق من التأكيد على أن كلا من الفطرة و الشرع أقرا بالحد الوسط الذي يضبط النزعة الاستهلاكية للمسلم .فالفطرة السليمة تحمل صاحبها على الوقوف عند الكفاية الضرورية , أي الحد الذي يطلبه البدن بلا زيادة أو نقص . فما نقص عن تلك الكفاية فهو تفريط يسلم البدن للوهن و الضعف , وما زاد عنها فهو إخلال بطبيعة الجسم الذي يطلب ما يحفظ توازنه .أما الشرع فيعتبر الحد الوسط هو أقصى حد تحتفظ فيه الذات العليا بمقوماتها, فإذا جاوزه الإنسان جاوزه إلى الشهوات التي تعصف بإنسانيته , فيتصرف في الأمور بتقويم شيطاني لا بتقويم إنساني(3). وبهذا تصبح القناعة ثمرة لزوم الإنسان للحد الوسط في علاقته بما يملك وما ينفق . إن الواقع الاقتصادي المرعب الذي نعيشه يدفع بالرغبات و النزوات لتصبح الموجه الأساسي لسلوك الإنسان في العصر الحديث , بل و يجعلها في الدرجة الأولى من سلم القيم . أمام وضع كهذا نخشى بالفعل أن ينطبق علينا توصيف إيريك فروم للإنسان المستهلكHomo Consumens , ذاك الإنسان الخامل , قليل القيمة , الذي يقاوم شعوره بالفراغ و القلق و الإحباط بمزيد من الاستهلاك و التبضع. إن الأمة الإسلامية أحوج ما تكون اليوم إلى استعادة قيمها الإيمانية العليا, و التصدي لمبررات الضآلة و الانحلال التي تغذي نزوع النفس البشرية لمغريات الهبوط .و لن يتأتى ذلك إلا من خلال صياغة جادة و متكاملة لقوالب التهذيب الأخلاقي , و حفز متواصل على اقتحام العقبة !
|