شهيد عرفة (عبد الرحمن ولد محمد أحمد)/الشيخ أحمد ولد البان
السبت, 04 أكتوبر 2014 12:16

كان ذلك اليوم "عرفة" وعجيج الحجيج بالتلبية يهز أركان مكة ويملؤها بالجلال الروحاني، لبيك اللهم لبيك، فتتجاوب مع تلبيات الحجيج قلوب الموحدين في مناكب المعمورة وقد صاموا لله فتنفس الكون عبق الإيمان وازدحمت السماء بمعارج أدعية القبول.

كان الفقيد عبد الرحمن بن محمد أحمد يتمتم بذكر الله ـ كما تروي إحدى أخواته ـ وقد انفتل من سبحة الضحى محسنا ركوعها وسجودها مستحضرا روحانية الواقفين بعرفة وجلال الباري سبحانه في استجابته دعاء ملايين القلوب المتوجهة إليه في أعظم مواقف النسك.

استلقى الفقيد في هدوء وسجى جسده الطاهر برداء خفيف كمن يريد أن يسرق غفوة دون أن يستغرقه سبات طويل ـ هكذا ظن الحاضرون ـ لكن تلك الضجعة الهادئة كانت آخر عهد الفقيد رحمه الله بالحياة.

الدعوة حبه الأول والأخير

يحدثني أحدهم فيقول: عرفته رحمه الله ابنا برا بالدعوة الإسلامية ونمطا مميزا من شبابها وعيا وجندية وإتقانا وإيجابية.

ويضيف: أغلب الشباب تنعكس عوامل التخرج والزواج والبحث عن العمل على أدائهم ـ وإن كانوا يحسنون الموازنة ويجعلون العمل الإسلامي في أول الاهتمامات ـ إلا أن الفقيد عبد الرحمن لم يكن له عمل سوى الدعوة إلى الله، لقد كان العمل الإسلامي حبه الأول والأخير، لقد صدق فيه قول الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى   فصادف قلبا خاليا فتمكنا

هكذا كان الفقيد عبد الرحمن الذي ربته الدعوة منذ نعومة الأظافر فحلَّ حبها مكان الشغاف من قلبه الطاهر، وإنك لتعجب كيف يختار الله بعض عباده فيصرفهم عن السوء أول مرة، حين ترى صورة وجه ذلك الطفل الناشء تبرق بمخايل النجابة وتنضح برواء الفطرة المعين جالسا بين الشباب الإسلامي في إحدى صور مخيمات أوائل التسعينات.

الإخوة الذين عرفوا الفقيد عن قرب وعايشوا معه يوميات العمل الإسلامي لا يختلفون في جنديته الظاهرة واستماتته وخبرته في الدعوة والتجميع والتربية، فقد كان غدوه ورواحه في سبيل الله تجميعا للعناصر الصالحة للنهوض بأعباء الدعوة، لم يكن للفقيد عبد الرحمن شغل غير الدعوة إلى الله من كل مواقعها وفي كل أحايينها، ويضيف (لا يمكن أن تجده خارج العمل الإسلامي).

لا يعرف كثيرون أن الفقيد هو مؤسس الدعوة الإسلامية الطلابية بالسنغال أثناء إقامته المحدودة فيه حتى أصبح يعرف بـ"عبد الرحمن دكار" وإن الذي يريد أن يتنشق عبق الذكر الجميل وجمال"لسان صدق في الآخرين" عليه أن يسأل أجيال الطلبة الموريتانيين بالسنغال ليستمتع بجميل قصصهم عنه وشامخ ذكرياتهم معه، فإن أنت لم تلق من بصَّرَهم بالصراط المستقيم وأخذ بأيديهم إلى الدعوة ـ وهم كثر بنعمة الله ـ فأنت واجد لا محالة من أهداهم وردة أو منحهم بسمة أو ترك لهم كلمة طيبة.

أما إذا أردت أن تسجم عيناك الدمع مدرارا فارحل إلى مرابع صباه ومدارج فتوته حيث أبواه وأخوته وأخواته وجيرانه ولداته وحيث جماعة المسجد المجاور وسابلة الطريق ثم اكتب ما ستجود به تلك النفوس من خصاله إن سمح لها البكاء أسفا عليه بالاسترسال في أخباره ومواقفه.

ستحدثك الأم عن بره والأخت عن شفقته والجار عن مواساته ورواد المسجد عن خشوعه ونصحه كما سيخبرك لداته وخلان صباه عن طهارة ثيابه ونقاء سريرته ونظافة سيرته.

سيما الصالحين

عجبت وأنا أجمع هذه الأخبار عن أخي الفقيد عبد الرحمن رحمه الله أن كل من سألتهم عن ملامح شخصيته كانت إجابته الأولى(كان باسما كل وقت)، يا رحمه الله..فقد كانت البسمة الوادعة والمحيا المشرق بالسرور شارته ومعطفه الذي يتزيا به بين العالمين مما منحه قبولا عند كل من عرفه من أبناء الدعوة الإسلامية وبناتها بل من المجتمع الواسع ولعل ذلك علامة حب الملإ الأعلى له ـ نحسبه كذلك ـ، لم ير الفقيد عابس الوجه ولا مقطب الجبين رغم أن كثرة مهماته وانشغالاته الدعوية ومخالطته أصناف الناس تفرض ـ أحيانا ـ التخلي عن شيء من أدب الوقار عند من لم يكن الصبر سجية ذاتية فيه.

ولم تكن تلك البسمة المشرقة إلا سيما ظاهرة لتواضع تأصل في نفس الفقيد وشهد له به عدول المجتمع، تواضع في عزة زانه هدوء في وقار، حيث كان الفقيد رحمه الله من أولئك الرجال الذين يخفيهم التواضع ويبرزهم الإنجاز والفاعلية.

يحدث العارفون به عن أخلاق جمة وهدوء مبالغ فيه، ذلك أن الفقيد كان بقية الدعاة الأول الذين وطأت مجالسة الأفاضل أكنافهم وهدت تلاوة القرآن في السحر سورة النفس الأمارة فيهم فأخبتوا لله في وقار جميل.

الفرار من الفتن

من أعاجيب ما روي عنه أنه بعد ما فشلت محاولته لمواصلة الدراسة في السنغال(تخصص الكيمياء) رجع إلى موريتانيا وبعد فترة وجيزة عين أخوه وزيرا بإحدى الحكومات الموريتاينة فأشار إليه بعض الإخوة أن يحاول الحصول على منحة دراسية إلى إحدى دول أوروبا عن طريق أخيه الوزير، وما ظنك بشاب في مثل عمره تتاح له فرصة الهجرة العلمية إلى عالم الحضارة والتمدن، بمنحة مالية كافية!

هل ستظنه يفوت تلك الفرصة السانحة؟ لا..فتلك أمنية طالما روادت كثيرين من أبناء الأمة الإسلامية.. لكن الفقيد عبد الرحمن كان نسيجا وحده في تصوره للأشياء وحكمه عليها أو قل في زاوية النظر، فإذا كانت الناس تبحث عن الدرجات العلمية الراقية والمنصب الوظيفي المريح فإن الفقيد عبد الرحمن كان يبحث عن الإيمان ودرجات التقوى وسبيل الجنة ويبعد نفسه عن كل ما يمكنه أن يعيقه عن مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ـ يقول محدثي ـ رفض الفقيد المقترح بشدة معللا ذلك بخوفه من الفتن، حيث ـ يقول محدثي ـ أخبرني أنه رأى الأثر السيء للغربة على كثير من إخوته الدارسين هناك، وهو لا يرضى عن حالهم بعد عودتهم ولا يريد ذلك لنفسه.

قد تنتمي هذه القصة في نظر كثير من الناس لعصور الزهد الأولى كما قد تبدو لغير المتأمل لوثة من التصور التقليدي للإيمان لكن العارفين بحال النفوس والمتمرسين في ميدان التزكية يعرفون أن بشاشة الإيمان شفافة وأن السالك المجد تتقارب لديه مأساة فقد حلاوة الإيمان بفاجعة فقد أصله وأن أرض الفتن تجرح زجاجة الروح، وما لكسرها جبر.

من رثائه

لقد رثى عدد من شعراء وأدباء الصحوة الإسلامية الفقيد عبد الرحمن كما أقيمت أمسيات تأبينية بمناسبة ذكرى وفاته يوم عرفة، ومن ذلك قول أحدهم:

رحلت ومازالت سجاياك تعبــــــق   وغرسا سقيت الروح مازال يورق

وما زال في ذكــراك شجو معتق    وفي وجــهك الوضا أسارير تبرق

أيا ومضة من عالم القدس أشرقت      ويا نفــحة بالطهر ترنو وتنطق

ويا فارسا مازال يبــــــكي جواده       فلا راكـــــبا من بعد يتعشق

سيبكيك ركض المخلصين وموكب به    راية الإخــــــــوان تعلو وتخفق

وآي سقيت القلب نوربهـــــــــائها     ومحرابك البـاكي مصيخ ومطرق

فيا رحمة الرحمن سحا بقــــــــبره    وياقبر قل أهلا إذا كنــــــت تنطق

رحل الداعية الطاهر والرجل المؤمن عبد الرحمن بن محمد أحمد رحمه الله وانتزعه الموت من بين أهله وزوجه وإخوته وأخواته، شابا طامحا للمعالي عاشقا للجنة محترقا بحال أمة الإسلام..لا إله إلا الله..مات عبد الرحمن.. توفي بن محمد أحمد . .رحل عن دنيا الناس أخونا المتواضع الخلوق. .كلمات لم يمنحها القاموس اللغوي أكثر من ثلاثة أحرف.. لعل اللغة تحس بأسى فراق الأحبة فأرادت أن نعبر تلك الكلمة الموجعة في أخصر وقت، أيها القافلون من دفنه..بالله عليكم..هل طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه عبد الرحمن؟ بالله عليكم...إن أقسى اللحظات هي تلك التي لا نملك إزاءها إلا التسليم:

فَلَو ْكَانَتِ الدّنْيا تُبَاعُ اشْتَرَيـْتُهُ    بِمَا لَم ْتَكُنْ عَنْهُ النّفوسُ تَطِيبُ

بِعَيْنّي أَو ْيُمَنَى يَدَيّ، وقيل َلي  هُو َالغَانِمُ الجــــــَذْلاَن ُيَوْم َيَؤُوبُ

رحمك الله يا عبد الرحمن..يا شهيد عرفة وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.

 

شهيد عرفة (عبد الرحمن ولد محمد أحمد)/الشيخ أحمد ولد البان

السراج TV